ما هو الحد الفاصل بين الوجود والعدم؟.. ما هو الحد الفاصل بين الولادة والفناء؟.. ما هو الحد الفاصل بين المادة والوعي؟.. وما هو المكان؟.. ما هو الزمان؟.. وما معنى الوجود؟.. هذه الأسئلة تطرحها ميكانيكا الكم بطريقة غير مباشرة، وتحاول فلسفة الفيزياء الحديثة الاجابة عليها.
علم ميكانيكا الكم في الفيزياء النظرية الحديثة علم شيّق وساحر، فهو يتعامل مع عوالم لم يعتادها العقل البشري.. عوالم تبدو سحرية.. ربما تجعل من الفيزياء الحديثة درباً من الدروب “الميتافيزقية” التي رفضتها الفيزياء عند انطلاقها كعلم. ولكن هذا العلم الساحر يصطدم باللغة البشرية التي لا تستطيع وصفه ووصف عوالمه السحرية، الأمر الذي يجعل من هذا العلم عصياً على الفهم لغير المختصين. أما المختصون فإنهم يرون هذه العوالم في المعادلات الرياضية لهذا العلم. ولهذا سأحاول قدر الإمكان تبسيط وصف هذه العوالم باستعمال لغة بسيطة وواضحة مع استعمال أمثلة لتقريب هذه العوالم الى الذهن، مع ضرورة الاشارة الى أن هذه الأمثلة لا تصف هذه العوالم تماماً بل تُحاكيها بعض الشيء لغرض ايصال الفكرة للقاريء.
وسأعتمد على مرجعين مُختصين في ميكانيكا الكم باللغة الانجليزية، الأول هو كتاب “نسيج الكون” لعالم الفيزياء بريان غرين، والثاني كتاب الفيزيائي فريتجوف كابرا “التاو في الفيزياء”، بالاضافة الى بعض المقالات المنشورة على الانترنت. أما المراجع العربية فلا يتوفر بين يدي سوى كتاب “دين الانسان” للاستاذ الرائع فراس السواح، ففي فصله الأخير يبذل الاستاذ الفاضل جهداً استثنائياً لتبسيط نظريات ميكانيكا الكم معتمداً على مراجع أجنبية لعلماء في هذا المجال.
نيوتن والفيزياء التقليدية
في القرن السابع عشر وضع نيوتن القوانين الأساسية للفيزياء التقليدية التي تتعامل مع حركة الأجسام ( = ميكانيكا نيوتن)، وأصر نيوتن على أن هذه الحركة تتم في المكان ( = الفضاء) والزمان ( = الوقت)، وأن المكان والزمان عبارة عن “خلفيتين مُطلقتين ومنفصلتين” للوجود تتحرك الأشياء فيهما. وهذا الاستنتاج النيوتني حول المكان المطلق لا شك كان متأثراً بمقولة “الفراغ” في النظرية الذرية اليونانية. ورغم اعتراضات العالم والفيلسوف والرياضي الألماني “ليبنتز” الذي قال بنسبية المكان والزمان، إلا أن الفيزياء النيوتنية انتصرت، وقامت كل الفيزياء التقليدية، وما زالت، على مبادئها. وفي هذه الفيزياء تلعب “الحتمية” دوراً جوهرياً، فحسب نيوتن لو عرفنا موقع جسم ما واتجاهه وسرعته فإنه بإمكاننا معرفة موقعه في أي لحظة زمنية قادمة أو سابقة. وتلعب كذلك مقولة “السببية” دوراً جوهرياً، فكل نتيجة ولها سبب. وهكذا اصبح الكون عبارة عن “آلة” عملاقة تعمل بانتظام دقيق ( = فلسفة جبرية حتمية). ولاحقاً قام عالم ورياضي فيزيائي آخر هو “ماخ” واعترض على ميكانيكا نيوتن ونادى مجدداً بنسبية المكان والزمان وعدم النظر الى مقولة السببية على أنها تتعامل مع نظامين منفصلين: “السبب” من جهة و”النتيجة” من جهة ثانية. ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى ظهر آينشتاين ليضع حداً لهذه الشعوذة!!.
صحيح أن فيزياء نيوتن استطاعت تفسير الظواهر الفيزيائية في عالمنا الكبير (ماكرو كوسموس) ولكنها عجزت عن تفسير الظواهر في العالم الصغير داخل الذرة (مايكرو كوسموس)، الأمر الذي دفع العلماء في بداية القرن العشرين للبحث عن فيزياء حديثة تستطيع استيعاب فيزياء نيوتن التقليدية من جهة وتفسير العالم الصغير من جهة أخرى، بمعنى أن فيزياء نيوتن أصبحت مجرد “حالة خاصة” في الفيزياء الحديثة. هذا جانب، أما الجانب الآخر وفي بداية القرن العشرين استطاع العالم “رذرفورد” وضع أول نموذج للذرة، وهو النموذج الذي درسناه في المدارس، حيث اعتمد رذرفورد النموذج الشمسي وطبّقه على الذرة، فأصبحت نواة الذرة في الداخل (وكأنها الشمس) وفيها البروتونات والنيترونات، أما السحابة الخارجية ففيها مدارات تدور حول النواة ويوجد فيها الالكترونات (وكأنها الكواكب). والفرق الوحيد بين ذرة ديموقريطس وذرة رذرفورد يكمن في أن الأولى “تجريدة ذهنية لا تنقسم” أما الثانية فـ”حقيقة فيزيائية قابلة للإنقسام” ومُثبتة بالتجارب المخبرية. ولهذا أصبحت البروتونات والنيترونات والالكترونات هي الأجسام الأولية التي لا تنقسم.
آينشتاين والنظرية النسبية
لم يكن آينشتاين معجباً بفيزياء نيوتن لجهة المكان والزمان كخلفيتين مطلقتين ومنفصلتين للوجود، بل كان ميّالاً لأقوال العالم ماخ. والحق يقال أن آينشتاين قد استفاد من رياضيات ماخ في صياغة نظريته النسبية. في القرن السابع عشر كانت هناك تجربة ذهنية فيزيائية تلائم عالم الفلاحين، وهي التجربة المعروفة بتجربة الدلو المملوء بالماء، فأثناء دوران الدلو حول نفسه يبدأ الماء بداخله بالدوران بعد فترة وجيزة، وعندما يتوقف الدلو عن الدوران يبقى الماء في حالة دوران ويكون سطحه مُقعراً، وعندما يعود الدلو الى الدوران بالاتجاه المعاكس يعود سطح الماء الى حالته الطبيعية المستوية. هذه التجربة دوخت العلماء آنذلك بسبب التناقض الذي تُفصح عنه. فمن المفترض عقلياً أنه عندما يتوقف الدلو عن الدوران أن يكون الماء ساكنا مُستوياً وليس متحركاً مُقعراً. هذه التجربة شغلت العلماء بمفهوم المكان، بمعنى: ما هو المرجع ( = مكان الاسناد) الذي على أساسه نحكم على حركة الأشياء في هذا الكون؟. عند نيوتن كان الجواب بسيطاً ومباشراً وهو “المكان المُطلق” ( = الفضاء)، أما ليبنتز فكان يرى أنه لا وجود لشيء اسمه المكان المطلق، وإنما المرجع هو نسبي، أي نسبة مكان شيء ما (الدلو مثلاً) الى مكان شيء آخر (الماء مثلاً)، وهذا ما أصر عليه ماخ وآينشتاين لاحقاً. لقد توصل آينشتاين الى صياغة النظرية النسبية الخاصة حول المكان والزمان قائلاً أنهما غير منفصلين، بل متصلين، واطلق عليهما صفة “المتصل الزمكاني”، بمعنى أن الوجود له أربعة أبعاد متصلة: “طول وعرض وارتفاع ووقت”. وما الفرق، قد يقول قائل، بين “زمكان” آينشتاين و”مكان وزمان” نيوتن؟ الجواب نجده عند الفلاحين المصريين: “الحركة بركة”.
في “زمكان” آينشتاين، كونه نظام متصل، يتحول المكان الى زمان ويتحول الزمان الى مكان!! هل آينشتاين مجنون؟ ليس تماماً، فبين الجنون والعبقرية شعرة كما يقولون.. دعونا نلقي نظرة على هذا المثال لتقريب المفهوم. أنا جالس الآن على الكرسي، وسرعتي تساوي صفراً، أي أنني لا أتحرك في المكان، ولهذا يكون “استثماري” في المكان يساوي صفراً، أما “استثماري” في الزمان فيكون أكبر ما يمكن (هنا تظهر علاقة الاتصال)، لقد تحول مكاني الى زماني، تماماً كما تتحول الطاقة الكامنة الى طاقة حركة (ألهذا ينتاب الجالس احساس بأن الوقت يمر ثقيلاً؟!). الآن دعوني أتحرك: وها أنذا أسير بسرعة الصوت ( = 340 متراً في الثانية)، أي أنني أستثمر في الزمان أيضاً كما أستثمر في المكان، ما الذي سيحصل؟ ستقل قيمة الزمان (الحركة بركة، فنحن لا نشعر بالوقت يمر ثقيلاً حين نتحرك). والآن دعوني أنطلق بسرعة الضوء وهي أقصى سرعة ممكنة فيزيائياً ( = 300 ألف كم في الثانية أو 186 ألف ميل في الثانية)، ما الذي سيحدث؟ بكل بساطة؟ سيتوقف الوقت وسيصبح صفراً، بمعنى أنني أستثمر الآن كل رأسمالي (أي زمكاني) في المكان (ألا ترون أنني أجوب المكان بسرعة هائلة؟) وذلك على حساب الزمان الذي توقف الآن. توقف؟! نعم.. وأين ذهب؟ لقد تحول الى مكان. لهذا استخلص آينشتاين أن سرعة الضوء مطلقة لا تتغير، وأنه لا يوجد سرعة أكبر من سرعة الضوء؟ لماذا؟ لأنه لو وجدت هكذا سرعة وكان باستطاعتي أن أنطلق بها لأصبح زماني “سالباً”، أي أنني سأعود الى الماضي. أكيد أنت مجنون!! لحظة من فضلكم، نسيت نقطة مهمة وهي أن الوقت يصبح صفرا (أي يتوقف) ليس بالنسبة لي أنا المسافر بسرعة الضوء، ولكن بالنسبة لكم أنتم كمراقبين (وهنا تظهر النسبية). أما مكاني (او مركبتي الفضائية الافتراضية) فيصبح طوله يساوي صفراً أيضاً بالنسبة لكم كمراقبين!!.. أين ذهب “الزمكان” إذاً؟!
في النظرية النسبية الخاصة يستعمل آينشتاين خمس معادلات؟ واحدة للزمان، وقد تحثنا عنها، وواحدة للمكان، وقد تحدثنا عنها أيضاً. والثالثة للكتلة. تقول المعادلة أنه كلما ازدادت سرعة جسم ما تزداد كتلته، وهذا ما حصل لي في مركبتي الفضائية فقد تحول زماني ومكاني (اللذان أصبحا صفرين) الى كتلة اضافية، وأصبح وزن مركبتي أكثر مما كان عليه قبل الانطلاق. ومن أين جاءت هذه الكتلة الاضافية؟ لقد جاءت من الطاقة.. الطاقة؟ نعم، فمع ازدياد السرعة زادت الطاقة. ولكن كيف تحولت الى كتلة؟ يجب علينا أن نتذكر دائما معادلة آينشتاين الجميلة والبسيطة في آن، وهي: “الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء”. أي بما أن مركبتي تسير بسرعة الضوء فإنها اختزنت بداخلها طاقة عالية جداً، هذه الطاقة تتحول الى كتلة حسب المعادلة الآنفة الذكر. هل هذه النظرية هي مجموعة من الأفكار وحسب؟ لا، فقد أثبتت التجارب صحتها تماماً سواء تجارب المُسارع الأوروبي (سيرن) أو جامعة “كالتك” في كاليفورنيا. والجميل في نسبية آينشتاين أنه ضم الزمان والمكان في متصل زمكاني واحد بحيث يتحول المكان الى زمان، والزمان الى مكان. وضم الطاقة والكتلة في متصل واحد بحيث تتحول الطاقة الى كتلة، والكتلة الى طاقة. هذه الاتصالية وضعت حداً لـ”شعوذة” نيوتن، فالحركة لم تعد “انتقال” الأجسام في المكان والزمان، بل أصبحت عبارة عن “حدث” لحظي في الزمكان، سرعان ما يتغير الى “حدث” آخر، وهكذا دواليك.
مع كل هذه “الصرعات” الآينشتاينية إلا أنه لم يكن راضياً تماماً عن انجازاته، ذلك أن نظريته النسبية الخاصة لم تتطرق الى الأجسام المُتسارعة، أي التي تغير سرعتها مع مرور الزمن. بمعنى آخر أنه لم يدرس الجاذبية وتسارع الأجسام، الأمر الذي دفعه الى تكملة نظريته بعد عشر سنوات ( = النظرية النسبية العامة). وما صرعات هذه النظرية يا ترى؟ بالتأكيد اختلفت عن مفهوم الجاذبية النيوتني في الفيزياء التقليدية الذي كان مبهماً وغير مفهوم، ولم أفهمه أنا شخصياً عندما كنت طالباً في المدرسة رغم الحاحي على المدرسين لتوضيحه، ولكن على ما يبدو كانوا هم غير عارفين من أين تأتي هذه الجاذبية، وكل ما قالوه أن الأرض تشبه المغناطيس الكبير!!. أما بالنسبة لزمكان آينشتاين فإن الجاذبية تأتي من “تشوّه” النسيج الزمكاني.. ماذا؟ لو بقينا على المغناطيس الكبير لكان الوضع أسهل!! مهلاً.. دعونا نتصور أن الزمكان بأبعاده الأربعة عبارة عن شبكة معلقة كما هو الحال في السيرك. والآن دعونا نضع عليها كرة كبيرة وثقيلة، ما الذي سيحدث؟ سيتشوّه سطح الشبكة، أي أنه سيتقعّر حول هذه الكرة. والآن دعونا نضع على الشبكة في موضع آخر كرة أصغر وأخف، بالطبع ستتقعر الشبكة حول هذه الكرة أيضاً، ولكن مقدار هذا التقعر أقل من مقدار التقعر عند الكرة الأولى، لهذا ستتدحرج الكرة الصغيرة على الشبكة باتجاه الكبيرة، أي أنها ستنجذب اليها. وعلينا الآن أن نتصور الكون وكأنه شبكة سيرك ضخمة (الشبكة هي الزمكان) وأن كل الأجرام في هذا الكون تُحدث تقعراً حولها بمقدار كتلتها، لهذا تنجذب الأجرام (والاشياء على الأرض) باتجاه بعضها البعض، صغير الكتلة باتجاه كبيرها، ولهذا تدور الأرض حول الشمس ويدور القمر حول الأرض. ولو قُدّر لنا أن نخرج خارج هذا الكون لرأينا “مادة هلامية” (كتعبير عن الزمكان) تتحرك الأجرام بداخلها ضمن أخاديد (مسارات) تنحتها الأجرام أثناء انجذابها لبعضها البعض نتيجة تشويه هذه الأجرام لهذه المادة الهلامية.
من آينشتاين الى “دفقات” بلانك
لقد أصبح نيوتن الآن آخر المشعوذين، وذهب معه مكانه المطلق وزمانه المطلق. أما تحوّل الطاقة الى مادة، والمادة الى طاقة، حسب آينشتاين، فقد فتحت الباب الى “صرعة” جديدة في الفيزياء الحديثة، أصبحت تُعرف بـ “النظرية الكمومية”. و”الفيلم الجديد” بدأ مع بداية القرن العشرين أيضاً مع العالم “ماكس بلانك”، فقد اكتشف أن إشعاع الجسم الأسود بعد تسخينه يُعيد اطلاق الطاقة التي اكتسبها من التسخين على شكل “دفقات” او “رُزم” من الطاقة على شكل “متقطع” بحيث تقل شدة ترددها مع كل دفقة حتى تنتهي. هذه الدفقات او الرزم أسماها بلانك “كمّات” (جمع كم، وكل كم هو دفقة). وما الجديد عند بلانك هذا؟ الجديد أنه حسب الفيزياء التقليدية كان الاعتقاد أن الجسم الأسود يكتسب الطاقة بشكل “متصل” ثم يقوم باشعاعها بشكل متصل أيضاً على شكل “موجات” وذلك نتيجة توتر الإلكترونات في مدارات ذرة الجسم الساخن. أما ما أثبته بلانك فكان أن الطاقة تنطلق من الجسم الأسود على شكل دفقات (او كمّات) متقطعة. لقد أثبت أينشتاين لاحقاً أن الطاقة تسلك سلوك الكمّات فعلاً، ولا تسير في “الأثير” على شكل موجات كما كان يُعتقد سابقاً (مصطلح الأثير من نيوتن). وقد أثبتت التجربة صحة هذا القول، فعند تسليط حزمة من الضوء على لوح معدني تنقلع (او تنفلت) الالكترونات عن اللوح وتتبعثر في الهواء، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا اذا كان الضوء عبارة عن “دفقات” (اي كمات) من “فوتونات”، تماماً كما دفقات الرصاص الخارجة من بندقية تُهشّم الحائط وتتطاير منه حبيبات الاسمنت ( = الأثر الكهروضوئي). ولكن الصرعة لا تتوقف هنا وإنما في حالة إذا ما خففنا من شدة الضوء فإن طاقة الدفقات لم تخفّ وإنما قلّت عدد الدفقات نفسها، الأمر الذي أدى الى اقتلاع عدد أقل من الالكترونات. أما تخفيف طاقة الضوء فيتم نتيجة تغيير “لون” الضوء، فالضوء البنفسجي وهو الأعلى في الطيف الشمسي يمتلك تردداً عالياً، أي أن فوتونات هذا الضوء تحمل طاقة أكبر، بينما الضوء الأحمر هو الأقل تردداً (التردد هو الذبذبة او التوتر).
عفواً.. لحظة من فضلك.. لقد قلت “تردد” و”ذبذبة”؟ هل تقصد أن الضوء يسير كـ”الموجة”؟ ولكنك قلت أيضاً أن دفقات الضوء كانت تحتوي على فوتونات؟ فكيف يسلك الضوء سلوك الموجة وفي نفس الوقت هو تيار من الفوتونات؟.. حسناً، دعونا نذهب الآن الى شاطئ البحيرة، وسأقف أنا في الماء، ونرمي حجراً في البحيرة بالقرب مني، سيُحدث الحجر موجات مائية في البحيرة تأخذ تدريجياً بالابتعاد أفقياً بشكل دائري عن مكان سقوط الحجر. وعندما تعبر هذه الموجات فوق قدميْ فإن عدد الموجات العابرة في فترة زمنية معينة (دقيقة مثلاً) هو تردد هذه الموجة. ولكن مع حركة هذه الموجة كانت الأسماك تسبح تحتها، أليس كذلك؟ الموجة المائية في هذا المثال هي كموجة الضوء، والأسماك التي تحتها هي كحركة تيار الفوتونات. أي أن الضوء يسلك سلوك الموجة و”الجُسيم المادي”. إن موجية الضوء تم اثباتها تجريبياً قبل آينشتاين بقرن من الزمان ( = تجربة يونغ، او الحيود الضوئي)، والآن جاء آينشتاين ليقول لنا أن الضوء عبارة عن “حبيبات” لا كتلة لها ( = فوتونات) تسلك سلوك الجسيمات. فكيف نفهم هذا التناقض في طبيعة الضوء؟!
لو بقيت الأحجية على الضوء وحده لهان الأمر، فقد جاء عالم شاب فرنسي يدعى “ديبروي” وألقى بقنبلة بين أقدام الفيزياء، فقد ضم معادلات بلانك الى معادلات آينشتاين وأثبت رياضياً أن “المادة” تسكل سلوك الموجة أيضاً، وأن لها تردداً، وكلما زاد عزم الجسيم المادي كلما قصرت موجة تردده. وبعدها بقليل جاء العالم “دافيسون” ليثبت تجريبياً صحة معادلات ديبروي، وحاز الإثنان على جائزة نوبل في الفيزياء. فقد أعاد تجربة يونغ في الحيود الضوئي، ولكن بدل اطلاق حزمة من الضوء أطلق دفقة (كم) من الإلكترونات، وهي جسيمات مادية لها كتلة وهي جزء من الذرة التي تتكون منها المادة حسب الفيزياء التقليدية. وكانت النتيجة أنها سلكت سلوك الضوء. والأمر المحير حقاً هو أنه عندما أطلق حزمتين عبر فتحتين متقاربتين لم تسقط الالكترونات على اللوح الحساس على شكل الفتحتين، وإنما على شكل “بقعة” واحدة وكأنها بقعة ضوء. ولكن ما هو محير أكثر من ذلك هو اعادة التجربة باطلاق الالكترونات فرادى، اي بالتتابع كما ينطلق الرصاص من المسدس، باتجاه فتحة واحدة أولاً، ثم باتجاه الفتحتين معاً ثانياً، وكانت النتيجة أن سلوك الالكترونات “فردياً” هو سلوك موجي!! وهذا لا يمكن تفسيره إلا على أساس أن الالكترونات “تختار” أين تتجه وأين تسقط، وكأنها “تعي وتفهم”. يقول عالم الفيزياء الكمومية “ووكر”: (يبدو الكون مسكوناً بعدد لانهائي من وحدات وعي صغيرة مسؤولة عن سير عمليات الكون)..هذا هو الجنون بعينه؟!.
من الحتمية الى الاحتمالية
كان آينشتاين ميّالاً الى الطبيعة الجسمية للضوء، ولكنه لم ينفِ الطبيعة الموجية، لهذا اعتبر أن الطبيعة الموجية هي موجة “شبحية”. وبالطبع هذا الوصف لم يقنع العلماء، خاصة “نيلز بوهر”، الذي اعتبر أن الطبيعة الموجية عائدة الى “موجة احتمال”، ولكنها ليست موجة بالمعنى الطبيعي وإنما موجة ككيان رياضي. وهنا اعتبر آينشاين أن الاحتمال لا يليق بالله سبحانه، فقال إن الله لا يلعب النرد مع الكون، فردّ عليه بوهر: لا تقل لله ما يجب أن يفعل. وأصبح آينشتاين آخر الفيزيائيين التقليديين. ولكن، ما معنى “موجة الاحتمال” حسب بوهر؟ معناه أن الأجسام الاولية “دون الذرية” تعيش في حالة بين “الحدوث” وبين “العدم”، أي أنها “تنحو” او “تميل” للحدوث. أي أن موجة الاحتمال عبارة عن “طور” بين الحدوث ولكنه لم يحدث بعد. يقول العالم “هايزنبرغ”: (انها نوع غريب من الواقع الفيزيائي، يتوسط بين الامكان والتحقق الفعلي). ولكن من أين جاءت موجة الاحتمال هذه؟ جاءت من مبدأ “اللايقين” في ميكانيكا الكم، فهذه الجسيمات دون الذرية لا يمكن التبؤ بمسارها فعلاً، وكل ما يمكن فعله هو دراسة سلوكها الاحتمالي كمجموعة تُدرس احصائياً. وهذا ينطبق على باقي الجسيمات الذرية، وعلى الذرة نفسها، وعلى الجزيئات، بل على كل المادة، بل على الناس والسيارات وغيرها، فكلها سلوكات احتمالية، ولكنها في العالم الكبير غير ملحوظة لأن موجة الاحتمال قصيرة للغاية. وهنا يسقط مبدأ “الحتمية والجبرية” ليحل محله مبدأ “الاحتمالية والحرية”.
يدرس علم الاحصاء سلوك الجماعات، ناس او سيارات وغيرها، ولا يدرس سلوك الفرد نفسه، فعندما نقول أن نسبة ازدياد عدد السكان في بلد ما هي كذا وكذا، فنحن لا نعرف من أي عائلة تأتي هذه النسبة، وإنما من الجماعة ككل. وعندما ندرس انعطاف السيارات على مفترق طرق، نقول تنعطف نسبة كذا وكذا باتجاه اليمين، ولكننا لا نعرف أي سيارة تنعطف باتجاه اليمين. وهذا ينطبق على موجة الاحتمال في ميكانيكا الكم، فهي تدرس احتمال حدوث كذا وكذا كسلوك جماعي، ولا تستطيع تعيين أي الإلكترونات بالضبط. فهذه الالكترونات تتحرك باستمرار ولا تهدأ ولا يوجد أسباب لذلك، فهذه من طبيعة العالم الصغير دون الذري، لا يحكمه السبب والنتيجة، وانما “الميول للوجود”. وهي ليست جسيمات مادية بالمفهوم التقليدي، فهي ليست “أشياء” وإنما “تجريدات ذهنية” يستعملها الفيزيائيون لدراسة الظواهر الكمومية، ولهذا أطلقوا عليها اسم “كم” وما يعنيه من “مقدار” وليس “كيف ما”. إنها ليست “لبنات” أساسية مادية، إنها ببساطة “كمّات”. ولكن لصعوبة فهم طلاسم العوالم الكمومية أبقى العلماء على المصطلحات القديمة في الفيزياء التقليدية، وذلك لعجز اللغة عن التعامل مع ميكانيكا الكم.
كيف نشرح هذا كله على مستوى الذرة مثلاً؟ على مستوى الذرة لا يمكننا القول أن الالكترون الفلاني موجود في الموقع الفلاني في المدار الفلاني، وانما نقول أن احتمال “حدوثه” في الموقع الفلاني هو كذا وكذا، واحتمال “حدوثه” في موقع آخر هو كذا وكذا ( = تابع الاحتمال). والآن دعونا نحرر هذا الالكترون من مداره في الذرة لندرس سلوكه في منطقة الرصد على لوح حساس. أولاً، مسار ارتحاله من منطقة التجهيز الى منطقة القياس هو مسار غير يقيني وإنما احتمالي، فنحن لا نستطيع القول أنه موجود في النقطة الفلانية في الزمن الفلاني، وإنما نقول أن احتمال وجوده هو كذا وكذا، فهذا الارتحال هو “انتشار لممكنات” ( = الدالة الموجية لشرودنغر). وثانياً، نحن لا نعرف مكان سقوطه على اللوح الحساس ولكن نعرف احتمال ذلك فقط، فعندما نقوم برصده يتحقق هذا الاحتمال (أي يحدث) بالذات، وتصبح باقي الاحتمالات تساوي صفراً. أما قبل ذلك فهذا الالكترون، رياضياً، لم يكن موجوداً، يقول العالم “أوبنهايمر”: (لو تساءلنا: هل كان في حالة سكون؟ كان الجواب بالنفي، هل كان في حالة حركة؟ كان الجواب بالنفي). وبهذا لا يكون للإلكترون أي معنى مستقل، وأنما هو “علاقة” أو “رابطة” في جملة القياس. أي أنه أشبه ما يكون بـ”معلومة” تنتقل في جملة كمومية في وقت فوري (آني) وكأن سرعتها أسرع من سرعة الضوء. وإذا ما أخذنا باقي الجسيمات الأولية دون الذرية لرسم صورة أكبر، فإننا نحصل على “علائق” (جمع علاقات) فيزيائية تشاركية متصلة تحمل معلومات. وما الذرة في ضوء هذا المفهوم إلا “المسرح” الصغير الذي تتشارك فيه هذه العلائق. يقول نيلز بوهر: (ان الجسيمات ليست إلا تجريدات من صنعنا، ولا يمكن تحديد خصائصها إلا من خلال تفاعلها مع جمل اخرى).
هل هذا يعني أننا لا نستطيع تقسيم الذرات الى جسيمات أولية؟! هذا السؤال غير دقيق في ميكانيكا الكم، فلا يوجد ذرات وجسيمات أولية مادية كما نفهمها تقليدياً، وإنما يوجد علائق وأنماط احتمالية لهذه العلائق المتبادلة، ولا وجود لوحدات مستقلة وإنما اتصال علائقي، وكأنه نسيج في عمق هذا الكون. والوعي الانساني ليس خارج هذا النسيج، بل انه يتصل به، لهذا يتدخل وعي المراقب الذي يقوم بالتجربة في التجربة نفسها، وكأن وعيه جزء من هذا النسيج العلائقي. يقول “هايزنبرغ”: (العلوم الطبيعية لا تصف الطبيعة وتفسرها، بل هي جزء من ذلك التفاعل بيننا وبين الطبيعة). أما ذرة ديموقريطيس ورذرفورد و”الجوهر الفرد” الأشعري فلا معنى لها في ميكانيكا الكم إلا إذا فُهمت كتجريدات ذهنية وليس كوحدات فيزيائية كما هو الحال في مثال الفيل والنملة. وما يُحيط بنواة الذرة ليست جسيمات مادية وانما دفقات احتمالية (كمّات) تشبه تلك الموجات التي تنتج عن اهتزاز حبل مربوط بالحائط ونقوم بتحريكه من الطرف الآخر. وماذا عن “تفتيت” الجسيمات الأولية الى جسيمات أصغر؟ للإجابة على هذا السؤال هيا بنا الى لعبة تصادم السيارات.
العالم دون الذري العجيب
سنقوم الآن بعملية تصادم سيارتين متجهتين باتجاه بعضهما. ماذا ستكون النتيجة؟ حطام السيارتين وقطعهما المتناثرة هنا وهناك. الآن دعونا ندخل في مسارع نووي ونقوم بعملية تصادم بين بروتونين. ماذا سينتج عن التصادم؟ قطع البروتونين المتناثرة!.. لا يا عزيزي، سينتج عنهما جسيمات أولية أكثر عدداً من البروتونين. ففي احدى التجارب نتج عن تصادم البروتونين 16 جسيماً جديداً ليست أصغر من البروتونين وإنما تعادلها من ناحية الكتلة. كيف نفسر ذلك؟ علينا أن نتذكر قانون آينشتاين: (الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء). وهذا ما حصل، فعند تسريع البروتونين الى سرعة قريبة من سرعة الضوء، اكتسب كل منهما طاقة هائلة جداً، وفي لحظة التصادم تحولت كل هذه الطاقة الى “كتل” جديدة، أي 16 جسيماً جديداً. هل هذا يعني أنها خُلقت من عدم؟ ليس تماماً، بل تحولت الطاقة الى مادة. فالجسيمات الأولية في حالة فناء وولادة مستمرة، فلا وجود للجوهر المادي، بل للتحول من شكل الى آخر: موت وحياة.. فناء وانبعاث. فالكتلة ليست إلا شكلاً من أشكال الطاقة، والطاقة لا تفنى وإنما تتحول من شكل الى آخر بما فيها شكل المادة. وهذا ما يجعل الجسيمات الأولية عبارة عن رزم (كمّات) من الطاقة، وليست جواهر مادية. وهنا تنصهر نسبية آينشتاين (الزمكان) بميكانيكا الكم (الكمّات الطاقية) لتعطينا تفسيراً لهذا اللغز، ففي البعد المكاني يظهر الوجود على شكل مادة، وفي البعد الزماني يظهر على شكل طاقة سارية نشطة دوماً.
لقد توصل العلماء الى الآن الى ما يزيد عن مائة جسيم أولي، بعضها لا يعيش أكثر من جزء من مليون من الثانية. وهي جسيمات بمفهوم الفيزياء الحديثة، أي تجريدات ذهنية. ولتمييز بعضها عن بعض أعطوها ثلاث خواص: الكتلة، الشحنة، اللف (الفتلان)، وكلها شؤون اصطلاحية. يقول العالم “بون فان” (فكرة اللف فكرة، دون أن يكون هناك شيء يلف). والجسيمات المستقرة في حالة فناء وولادة مستمرة، ففي تحلل “بيتا” ( = نشاط اشعاعي) يتحول النيترون الى بروتون مع تخليق الكترون من العدم وجسيم آخر يدعى “نيترينو”. أما البروتون فيتفاعل مع نفسه ليموت مُطلقاً بروتوناً جديداً وجسيما يدعى “بيون” متعادل الشحنة. ولكن البروتون قد يفنى ويطلق بيوناً موجب الشحنة، وفي هذه الحالة يطلق نيتروناً (بدل البروتون). وهذه العمليات متتالية باستمرار وتتم في فترة زمنية قصيرة لا يلحظها الزمن (لهذا ينكسر قانون حفظ الطاقة). بمعنى آخر: في نواة الذرة هناك عملية تبادل دائم بين البروتونات والنيترونات، وهذه العملية هي ما يجعل العلاقة بينهما من أقوى قوى الطبيعة على الاطلاق (= القوة النووية القوية). وهكذا يفعل الالكترون حين يتفاعل مع نفسه ليفنى، مُطلقاً الكتروناً جديداً وفوتوناً كسيحاً. وهنا مرة اخرى تظهر لنا “القوة” و”المادة” كشكلين للوجود ( = مخططات فاينمان).
ولكن مخططات فاينمان لا تتوقف على هذه الجسيمات وحسب، بل تأخذ بعين الاعتبار ما يسمى بالجسيمات المضادة. فالالكترون له جسيم مضاد اسمه “بوزيترون”. والجميل في هذه الجسيمات المضادة أنها حين تتصادم مع الجسيمات فإن كليهما يفنى ويخلقان بفنائهما فوتونين أصليين. ولكن ما لا يصدقه العقل البشري بخصوص هذه الجسيمات المضادة أنها وإن كانت نسخة طبق الأصل عن الجسيمات، ولكنها تختلف عنها في أنها تعيش في الزمن المعكوس. ولو تصادم فوتونان أصليان لنتج عنهما الكترون والكترون مضاد يعيش في الزمن المعكوس (لنقل من الحاضر الى الماضي). ولو نظرنا لهذه اللوحة بجميع أعضاء عائلة الجسيمات الأولية السعيدة لفهمنا ما معنى أن تكون هذه الجسيمات عبارة عن “علائق” لا أكثر، فلا يمكننا فهم الالكترون بمعزل عن الصورة الكلية، وهذا ينطبق على باقي الجسيمات. إن الواحد لا يمكن فهمه إلا في السياق “الكلاني” للعلائق، ولا معنى لأي واحد بمعزل عن الكل. فالجسيمات عبارة عن “حوادث”، ولا معنى لها خارج علاقتها التبادلية مع بعضها البعض، وهذا يعني أن كل جزء في الطبيعة ينضوي على الاجزاء الاخرى. هل صدق “بوذا” حين قال: (كل شيء في الكون ليس نفسه فقط، بل يحتوي على كل شيء آخر)؟
إن تجربة “أينشتاين، بادولسكي، روزان” ( = احجية المدفع) تعطينا جواباً شافياً. فلو قمنا بتغيير اتجاه لف جسيم بعيد جداً عن شقيقه الجسيم الآخر الذي يلف في الاتجاه المعاكس، فبمجرد تغيير اتجاه لف الأول فإن الثاني يغير اتجاه لفه أيضاً، حتى لو كان كل منهما في طرف من الكون. هل هذا يعني أن هناك نوعاً من التواصل الآني والمباشر بينهما؟ الجواب نعم. لقد أثبتت التجارب في السبعينات أن الجسيمات تتواصل مع بعضها دون اشارات تصدر عنها ( = فريدمان وكلاوز). يقول العالم هنري ستاب: (إن العمليات الأساسية للطبيعة تقع خارج الزمان والمكان، ولكنها تولّد حوادث تتموضع في الزمان والمكان)، أي أن المسرح الفعلي للحوادث الطبيعية يقع بعيداً جداً عن ما تستطيع أجهزة العلم الدقيقة الوصول اليه. وهذا ما طوره لاحقاً العالم “دافيد بوهم” الى ما يسمى بـ “الكلانية غير المُتجزئة”، فهناك في القاع العميق نتشارك جميعاً في نسج نسيج هذا الكون، أنا وأنت وذلك الانسان الجالس الآن في غابات الأمازون، وذلك البركان الهامد في اليابان، وذلك البحر الرملي او الغازي في الأجرام البعيدة. لقد اعتاد العقل البشري على آليات “التفكيك والتركيب”، فنظر الى الكون من هذه الزاوية، فرأى فيه أشياء مُركبة من أشياء أصغر، ثم أصغر، يمكن تفكيكها الى وحدات نهائية. ولكن ميكانيكا الكم تعلمنا أن الكون كله نسيج متصل من “حوادث” تعتمد على بعضها البعض، ولا معنى لجزء بدون الآخر. ولهذا يجب علينا الانطلاق دوما من دراسة “الكل” لفهم “الجزء” وليس العكس. وهنا تنحل الحدود الفاصلة بين المادي والمعنوي، بين الجسد والنفس، بين الوجود والعدم. يقول العالم فريتجوف كابرا ما معناه أن (الصوفي الشرقي يرتقي إلى حيث تذوب الفروق بين العقل والجسد والذات والموضوع، ينظر الصوفي الشرقي حوله ويدرك أن أي شيء مرتبط بأي شيء آخر ليس مكانياً وحسب بل وزمانياً أيضاً. ووقع التجربة الصوفية يدل على أنه لا مكان للأزمان ولا زمان للأمكان. انهما متواشجان) (الترجمة لحنّا عبود).
الكون الراقص على أنغام الأوركسترا
يقول العالم كابرا في لحظة تأمل صوفية على ساحل البحر: (لقد أيقنت أن كل ما يحيط بي كان يشارك في رقصة كونية.. لقد رأيت شلالات من الطاقة تأتي من أعماق الكون حيث تفنى جسيماتها وتنولد في ايقاع نابض.. لقد رأيت ذرات الأشياء وذرات جسدي تشارك في ايقاع هذه الرقصة.. لقد سمعت أصوات الايقاع.. ولقد أيقنت أنها رقصة “شيفا” معبودة الهندوس). عن ماذا يتحدث كابرا يا ترى؟ إنه يقارب ميكانيكا الكم من الفلسفات الشرقية: الهندوسية والبوذية والتاوية، بل انه يتطرق الى الصوفية الاسلامية كما مر معنا أعلاه، ويذكر بالذات المتصوف الشيخ “ابن عربي”. وما علاقة ذلك بالرقص والايقاع؟! .. للإجابة على هذا السؤال أدعوكم لحضور حفلة موسيقية في قاعة “تشايكوفسكي” للسمفونيات في موسكو.
تعتبر نظرية “الاوتار الفائقة” آخر صرعات ميكانيكا الكم، فحسب هذه النظرية يمكننا تصور النسيج الكوني وكأنه نسيج من خيوط (اوتار) فائقة في الصغر لا يتعدى طول الوتر مقدار “طول بلانك” ( = جزء من 10 آلاف مليون مليون مليون مليون مليون جزء من المتر). هذا الوتر له طول وليس له عرض او ارتفاع. ولأنه صغير جداً فهو “يهتز” في أبعاد غير مرئية، بامكاننا تصورها أنها أبعاد مجهرية. ولذلك وحسب هذه النظرية يصبح للمكان أبعاد اضافية عددها سبعة (المجموع الكلي يساوي 10 ابعاد مكانية). هذه الابعاد مُلتفة على بعضها مكانياً، بحيث لا يصبح هناك أي معنى للغة البشر، فلا معنى لكلمة فوق وتحت ويمين ويسار ومضى وعاد وغيرها. هذه الأوتار الفائقة في حالة اهتزاز مستمر، وكل “شدة اهتزاز” تعبّر عن “جسيم مادي ما”. أي أن مفهوم الجسيمات المادية وفقاً لهذه النظرية هو “شدة اهتزازات هذا الوتر او ذاك”. وهذه الاهتزازات مختلفة، الأمر الذي ينتج عنه “ايقاعات الكون الراقص”.
الآن دعونا نتصور ذرة الهيدروجين من منظور اهتزازي. وذرة الهيدروجين ذرة بسيطة تتكون من الكترون واحد وبروتون واحد. دعونا نفترض الآن أن الالكترون هو اهتزاز وتر الكمان، وأن البروتون هو اهتزاز وتر البيانو، ودعونا نفترض أن هذه هي معزوفة “سوناتا القمر” لبيتهوفن (ذرة هيدروجين = سوناتا القمر). ثم لنأخذ ذرة الاوكسجين، وهي تحتوي على 8 الكترونات و8 بروتونات و8 نيترونات، ولنفترض أن كل الكترون هو عزف كمان، وكل بروتون هو عزف بيانو، وكل نيترون هو عزف باس. نحن الآن أمام اوركسترا أضخم من الأولى، ودعونا نفترض أن هذه الاوركسترا تعزف “فالس ماندلسون” (ذرة الاوكسجين = فالس ماندلسون). وبما أن “جزيء الماء” يتكون من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الاوكسجين دعونا نفترض جدلاً أن أوركسترا كبيرة الآن تعزف سوناتا القمر مرتين في الوقت الذي تعزف فيه فالس ماندلسون مرة واحدة، هذه “السمفونية الجديدة” هي “الماء”.. انها سيمفونية الحياة.
أرجو أن تكونوا قد استمتعتم بالحفلة الموسيقية؟.. لا بالطبع لم نستمتع!!.. فكيف نفهم أن الماء، وهو مادة، هو مجرد “ايقاعات”؟.. للجواب على هذا السؤال عليكم قراءة المقال مرة أخرى.. والآن، استودعم الله
المرجع: د. ظافر مقدادي/ مجلة الفينيق الثقافية/ هيوستن
اضافة تعليق