هناك فرق بين المعرفة والتعرّف. المعرفة هي معلومات وافية عن زمن مضى، بينما التعرف هو محاولة اكتساب معرفة جديدة، إنه عملية تحول تطوري، لذا، إذا كنا فعلاً راغبين بالتعرف، علينا الاعتراف، أن كل شيء قابل للتعرف والتحول. حتى اللغات التي نكتب بها اليوم أو نحكيها، قطعت مراحل (تعرّف) كثيرة حتى وصلت إلى ما هو عليه اليوم. ولهذا انقرضت لغات، لأنها لم تتحول، فلا شيء في هذا الوجود ثابت، بل كل شيء في تحرك دائم. لذا، لا تقل "معرفة" بل "تعرّف" ولا تقل "الحب" بل "أنا عاشق ومعشوق في آن واحد".
المشكلة أننا تعودنا على ترداد الأشياء الجامدة فما نزال نقول "النهر" مع أنه جريان للمياه، وأنه ليس هو ذاته بين ثانية وأخرى. وكذلك الأشجار، ومع أنها تنمو كل لحظة وتتغير، تتساقط أوراقها وتعود تورق من جديد، إذاً، لا شيء ثابت في الوجود.
أيها الإنسان، كن مع الحياة، متحركاً ومتحولاً، ولا تكتفي بالنظر إلى ما يجري دونما اهتمام. بل بهدف التعرف على التحول الذي يصيب الأشياء ولا تكتفي بما عرفت. بل ثابر على اكتساب المعرفة. هكذا ترى الأشياء واضحة.
مهما عرفنا يبقى هناك الكثير من الأشياء والأمور التي عرفنا وتعرفنا عليها. ففي كل لحظة شيء جديد، عرفتُ شيئاً وغابت عني أشياء... حتى أنا الآن لستُ أنا بعد الانتهاء من كتابة هذه الكلمة. أقول "الكلمة" وليس "الكلمات" فالحياة مستمرة في التحول، ولا تتآلف مع الغموض. والله لا يحلّ إلا في قلوب أولئك القادرين على التحوّل والراغبين في التعرّف والتصرّف.
اكتشاف المعرفة، الحقيقة، الحكمة؟
إن ذلك يتم من خلال الوعي المنتبه، وليس من خلال مراكمة المعلومات، بل من خلال الذهاب إلى داخل عملية التحول. الوعي المنتبه هو تحول داخلي، لقد ولدتَ الآن من جديد.
بصورة اعتيادية، غالباً ما يتواجد المرء في حالة نائمة، وعيه المنتبه في أدنى درجاته، فقط، بنسبة واحد في المئة، أو بنسبة أقل من ذلك ولكن ذلك يكفيك لعملك اليومي، يكفيك لتكسب خبزك ولتوفر ملجأك وليكون لك أولاد وعائلة، يكفيك هذا الوعي الضئيل لتحقيق ذلك، ولكنه لا يكفيك لتحقيق ما هو أكثر من ذلك، تسع وتسعون في المئة من وجودك يبقى ظلاماً دامساً. لكن، كل ذلك الظلام يمكنك تغييره. بإمكان المرء أن يمتلئ بالنور. عندئذ، يتعرف المرء على فن العيش، وعلى النشوة الهائلة للعيش والحياة.
منذ أن وجد الإنسان والعقل عاجز عن معرفة ماهية الحقيقة، إنه يعرف أشياء عنها، لكنه لا يعرفها بذاتها. أن تعرف شيئاً عن الحقيقة أمر مختلف عن معرفتها، قد تكون قادراً على التحدث عن الحب، من دون أن تعرف ما هو، وحتى أن تتعرف عليه، يجب أن تمر بتجربة الحب، يجب أن تكون عاشقاً. جمع المعلومات شيء، والوصول إلى الذات شيء آخر، بمقدروك حفظ ما قاله الفلاسفة وعلماء الدين، وكذلك نظريات وفرضيات العلوم. ولكن ليس بمقدورك الادعاء أنها أقوالك ونظرياتك وفرضياتك، لا أحد ينكر أنها تعينك على تعميق وعيك. وهنا يكمن الخطر، لأنها تجعلك مدعياً أنك تعرف كل شيء.
دائماً عليك معرفة أنك إذا حفظت شيئاً، وغابت عنك أشياء، عليك معرفة الشيء ونقيضه، وعليك الاعتراف أنك جاهل لأمور كثيرة.. لماذا؟! حتى تبقى راغباً في حب الاستطلاع، في اكتساب المعرفة، حتى تبقى باحثاً عن الحقيقة، عن حقيقة المعرفة. وهكذا، تمضي حياتك باحثاً عن الحقيقة، عن حقيقة الوجود، باحثاً عن الوعي الكلي الشامل، بهدف الوصول إلى الحقيقة واختبارها.
الله معنا كل لحظة، إنه الألوهية في قلوبنا النابضة، في رئتينا حين نتنفس لكن المشكلة هي أننا ـ أحياناً ـ لسنا مع الله. نريده أن يكون معنا ولنا، في حين لا نحاول التقرّب منه.
حين نصبح مع الله، نعي أهمية الحياة، نعي أن علينا الإحساس بالشكر والامتنان ونعي أهمية وجودنا.
ليس بمقدورنا الاستيلاء على الحقيقة، بل أن تسعى إليها، أن تفتح قلبك لها، ولن يكون هذا إلا بالتأمل، إلا بالاستغراق في التفكر والتذكر... في كيفية جعل نفسك ممتلئة بالنعمة والبركة، في أن تكون شاعرياً وليس عالماً، في أن تصلي من الأعماق وليس من الشفاه.
صلّي بثقة أن الله يستجيب لدعائك، وأنه سيكون معك إذا كنتَ معه... كن مصباحاً ينير ذاتك، قبل إنارة غيرك، فلا أحد بمقدوره إعطاءك المعرفة، وإن اعتقدت بهذا، فهذا يعني أنك لن تتعرف إلى المعرفة.
لماذا تبحث عن النور خارج ذاتك؟
الله أعطاك كل ما أنت بحاجة إليه، منحك النور الداخلي. وهو دائماً إلى جانبك ومعك ليساعدك على التمييز بين الصح والغلط، يغمرك بغبطته ورضاه. لا تكن مثل أولئك المستلقين على قارعة الطريق بانتظار من يوصلهم معه، فهذا مضيعة للوقت وهدر للطاقة الكامنة فيك.
أنا لن أقول لك ما عليك فعله، ولا كيف يجب أن تفعل هذا أو ذاك.. بل أطلب إليك أن تكون أنت أنت لا أحد غيرك.
ثم أخيراً...
لماذا لا تجعل حياتك حديقة أزهار، متعددة الألوان والأنواع، وكل زهرة تسعى أن تعطي أكثر من الأخرى، إنه التنافس على العطاء. فلماذا لا نكون مثلها، نتنافس من أجل بلوغ التسامي.
كثيرون من البشر يعانون انقسامات وصراعات داخلية، يحتارون أي طريق يسلكون، لأنهم ليسوا كتلك الأزهار التي توحدت في سبيل العطاء. لن يشعر الإنسان أن حياته ليست مصادفة، بل هي مجموعات تخلّت عن أنانياتها ونذرت نفسها لفعل الخير.
لا نعمة ولا محبة، ولا سعادة، إلا بتوحد الذات الإنسانية مع ذاتها مع الواحد الأحد. إلا بتوحيدٍ داخلي للوصول إلى نعمة الله في كل حبة رمل وقطرة ماء....