الخميس، 10 مارس 2016

النية والقدر


للنية أثر كبير، بل هي ما يسبق صناعة أي حدث أو عمل ("إنما الأعمال بالنيات")، وهذا في كل شي، و"إنما" للحصر، أي ما من شيء يكون إلا بنية مسبقة. والناس في القدر طوائف: فمجموعة ترى أن القدر كتبه الله إجباراً ليس للإنسان فيه خيار، ومجموعة ترى أن القدر بنته عقول البشر عبر الأجيال والقرون، ومجموعة لا تؤمن بوجوده أصلاً، وبينها مجاميع من الفكر.

أما المجموعة الأولى وهي منتشرة في أذهان أهل الأديان بما فيهم المسلمين اليوم وحتى بين رجال الدين المشاهير، بل وغير رجال الدين ومن غير المتدينين في كل الديانات، يرون أن الأمور "قسمة ونصيب" وأن قسمة الإنسان مكتوبة من قبل ولادته وحتى وفاته، وأن عليه فقط أن يجتهد في تنفيذ المخطط الإلهي عليه، واعتقادهم هذا متضارب، لذا تراهم لا يحققون أي ثمرات حقيقية في الحياة سوى الجدل الكثير والعمل القليل، حتى ولو دعوا للعمل. فمثلاً كثير ممن تبنوا هذا الاعتقاد في التاريخ يتهمون "المرجئة"، وهي طائفة إسلامية، بأنهم منحرفون كونهم يقرون الإيمان بالقلب واللسان فقط ولا يدخلون العمل معه، ولذا اتهموا الإمام أبا حنيفة وصاحب مذهبه الشهير الطحاوي، صاحب العقيدة الطحاوية، بذلك، لكنهم في المقابل يكتبون في كتاباتهم ومقالاتهم القديمة بأن القدر مكتوب ومحسوم من قبل الولادة، وهو ما يتوافق منطقيا مع ما يقوله المرجئة، كون العمل لن يزيد ولن ينقص في الإيمان، وهم يقولون أن القدر كله مكتوباً. من هنا تتولد من هذه القناعات والعقيدة اضطرابات في الحياة لعدم الوضوح. فإذا كانت الحياة أنت فيها ريشة في مهب الريح، تنفذ المكتوب، فما فائدة العمل؟ يتورطون. فيجيبون بأجوبة أكثر ضحالة وسذاجة، لا تقنع العقل اللاواعي، ولذا لما انتشرت هذه العقيدة التي هي في العمق "مرجئية" وأسميتهم أنا في السابق بالمرجئيين الجدد، انتشرت الاضطرابات الفكرية، وقل فيهم العمل والانتاج والاختراع والصناعة وكثر فيهم الجدل، لأن القوم متى تركوا العمل أتوا الجدل، تلقائياً. ولذلك لم تجد منذ سبعة قرون أي مخترع حقيقي ينتمي للجماعات الدينية، بشكل عام، وللجماعات المتعصبة الجدلية، بشكل خاص. تركوا العمل فأتوا الجدل. ومن نتاجهم بشر كثير يضيعون الأوقات في فيس بوك وتويتر ينشرون الشكوك والجدل، يتحدثون بلغة العلم، وهم من العلم فروا، ينطبق عليهم الحديث المتفق عليه: "سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرى من بقائهم فائدة، فأمر خلفائه مكملاً حديثه قائلاً: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة"، وهذه الفقرة الأخيرة شديدة جداً، لكن بعده الذي يراه صلى الله عليه وسلم من كونهم مضرة كبيرة، فهم سبب للإلحاد المنتشر، وهم سبب لتخلف المسلمين، وهم سبب الفتن والاضطرابات والمعاناة التي تعاني منها الأمة اليوم! يستشهدون بالآيات ويضاربونها ببعض، ويكررون كلاماً مطحوناً، ويتعصبون لآرائهم، قليلو الأدب، قليلو الاحترام، يقدسون أربابهم ويبخسون الناس حقوقهم، أحداث السن أي صغار في السن، يسفهون الأحلام، يحلمون بالتحكم بالناس والدول والحكام والحكومات والعالم، عنيفون، يعيش فيهم الشخص عقوداً فإذا مات لم يعرف غير مسلم واحد أي فائدة له، يبحثون عن أخطاء العباد كما تبحث الذبابة عن الأوساخ، يرمون الناس بسم كالثعابين، مكشرون، مكفهرون، معسرون، عسرون، أينما حلوا في بلد اضطربت، ينطبق عليهم قانون: "كما في الداخل كذلك في الخارج". يتحثون باسم الشيطان طوال الوقت وهم يلعنونه، يتلون القرآن كل يوم وهو يلعنهم، كما في قول أنس رضي الله عنه: "رب قارىء للقرآن، القرآن يلعنه". تعرفهم بسيماهم وبلحن القول وبطاقتهم، أينما حلوا أنزعج الناس واضطربوا، ما في داخلهم ينعكس على بيئتهم، ليكن البعد عنهم أولوية في حياتك، محافظة على طاقتك وأوقاتك، وحتى تسكن اضطراباتهم الداخلية ويتشافوا.

في المقابل قوم نفوا الخالق أو صنيعه، فجعلوا القدر تراكم معلوماتي طورته الحياة، فإذا سألوا ومن أين بدأت أول معلومة، خبصوا وأجابوا بسخافة تزيد على من ذكرنا قبلهم، علميون إلا إذا جاء العمق في هذه المسألة فهم كطالب ابتدائي، بيننا وبينهم كما قال الشيخ محمد الغزالي مسألة الإيمان بالله وهم الإيمان بالانفجار الأول. نحن نقول وقبله كان الله وما زال، ونقول: "كان الله وكان عرشه على الماء"، وهم يقولون: كانت الصدفة من محض وخلقت من عتمة. فلما تقول لهم: ومن خلقها؟ وكيف كانت، فلا جواب. بعدها يدخلون في جدل، فيتساوون مع نقضيهم، لأن النقيض حبيب لنقيضه في الطاقة، شبيه له في سلوكه، قريب له في نتائجه.

والقدر باعتقادنا نظام أنشأه الله سبحانه، الذي لا نعرف عنه الكثير حالياً، ولا تدرك بصائرنا مكنونه، ليس كمثله شيء، فلا يمكن للوعي العام بكل فكر الإنسان أن يحتويه، الله سبحانه يحتوينا والأكوان، ولا نحتويه. لكننا بشكل عام نقترب كل يوم منه، كل سنة، كل عقد، نحن اليوم أفضل مما كنا فيه قبل مليون سنة أو عشرين مليون سنة. نحن اليوم جزء من المساهمة في تطوير الكون، ربما نحن ومن معنا في الكون الفسيح من مخلوقات، ربما بمستوانا الروحي أو أفضل أو أقل.

القدر تفاعلي، مقدر، (إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي بتقدير، وهو يتفاعل مع الانسان ونواياه، فنوايا البشر تغير من أقدارهم، من قال بغير ذلك عطل النية، ولم يصبح لحديث "إنما الأعمال بالنيات" وحديث "أنا عند ظن عبدي بي" أي قيمة حقيقية، سوى تأويلات باردة لا تليق بكلام من أوتي جوامع الكلم. والقدر في اللحظة، في الآن، فهو يعمل الآن، لا يعمل غداً أو أمس، بل آني، يتعامل مع النوايا الحالية، وهذا يعطي صاحب النية القوة في تغيير قدره في أي وقت للأحسن أو للأسوأ. فالقدر في تواصل معك كل لحظة يتلقى منك، فإن لم يكن لديك نية عمل بالمقدر العام، أؤ ما أسميناه بالوعي العام، المبني من مجمل فكر البشر.



اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2016 مدونـة يقظة وعــي