الثلاثاء، 15 مارس 2016

التدرج في الوعي - د.صلاح الراشد



الإنسان يتطور دائما في مراحل العلم .. عندما كان في ابتدائي لو قال له أحد أن إثنين ناقص ثلاثة تنفع ، كان ضحك عليه من القلب واتهمه بالجهل وقال له كيف يا ذكي إثنين نطرح منها ثلاثة ؟
سيذهب عندها لكل أصحابه من ابتدائي ويقول لهم ، شايفين الراجل دا ، رغم كل التعليم اللي اتعلمه مش فاهم إن اثنين ماينفعش نطرح منها ثلاثة ، مع إنها بديهية ؟؟؟ ويثور وينفعل ويغضب ويقول : معقوووووول في حد عاقل يقول إن إثنين ينفع نطرح منها ثلاثة ،،، يعني لو أنا معايا تفاحتين ، ينفع أعطي ثلاث رجال كل واحد تفاحة ؟؟؟ فيضحك من حوله ويصفقوا له ويبدأ في اتهام من يقول غير ذلك بعدم الفهم وغيرها من الاتهامات ، يصدقه فيها كل من في المرحلة الابتدائية ويصفقون له بمنتهى الإعجاب ..

ولو ذهبت للنقاش معهم ستحتاج لشرح جزء كبير من منهج الحساب المتقدم أو الجبر كيف يفهم ،، لذا تجدهم يقولون لك يا أخي شغل مخك ، معقولة إثنين ناقص ثلاثة تنفع ؟؟ هذه بيديهة أين ذهب عقلك يا رجل ..

بعد أن يتطور في التعليم يعلم أن إثنين ناقص ثلاثة يساوي سالب واحد . لأن علمه نضج وأصبح أكثر وعيا بمهارات الحساب والجبر وغيرها ..

كذلك الدين .. يدخل الشاب الدين ، يبدأ في فهمه بصورة مختلفة تماما ويفهم منه القشور فيظن أنه فهم الدين .. يبدأ في الحكم على الناس والالتزام بالشكل الخارجي من صلوات وعبادات وصيام وزكاة وملبس وغيره دون أن ينتبه للعمق الباطني .. يقرأ في كتب السابقين دون معرفة مستويات وعيهم حين كتبوا هذه الكتب فينقل منها ويهاجم الناس استنادا على قولهم .. لا يعلم أن بعضهم كتب هذه الكتب عندما كان في مرحلة ابتدائي في الدين ،، وبعضهم كتب هذه الكتب عندما كان في مرحلة إعدادية في الدين ، وبعضهم في الثانوية ،، وبعضهم في الدراسات العليا .. كل يكتب بحسب وعيه لحظة كتابة الكتاب ومدى فهمه لأمور الدين

فترة بعد فترة يحدث لهذا الشاب تحول وربما يكون على حالات كثيرة أذكر هنا ثلاث حالات :

الحالة الأولى :

- بعضهم يحجر عقله ويستمر على هذا الفهم فيؤدي الدين كأنه قيود وفروض غصب عنه ، لا يستمتع به ، لا يعيش سعيدا ، يعيش كأنه أسير مقيد ،، لا يستطيع فعل ما يريحه لأنه يرى أنه غلط وحرام وغيره .. يسأل في كل شيء وعن كل شيء ، ويحتاج فتوى لكل ما يفعله !! فلا ينعم بالحرية ولا الراحة أبدا .. وربما يعمل الذنوب في الخفاء لأنه لا يستطيع منع نفسه ثم يتظاهر أمام الناس بأنه العابد التقي .. مثل هذا الشاب لو ربى لحيته وتعرف على أحد القنوات سيصبح داعية إسلامي شهير وسيصدر هذا الفكر للناس وسيظنه كل من في المرحلة الابتدائية في الدين أنه العالم الجليل .. وبما أن من في المرحلة الابتدائية كثير ستجد له أتباع كثر من كل مكان لا يعلمون أبدا أنهم كلهم في المرحلة الابتدائية . وكلهم مقتنعون أن إثنين ناقص ثلاثة ماينفعش وسيهاجمون بشدة كل من يقول غير ذلك ، حتى لو كان شيخ الأزهر :)

الحالة الثانية :

- بعضهم يعمل عقله ويفكر بصورة سلبية فيزهق ويمل من هذا الدين ويرى أنه أصبح مخنوق مقيد . فيرجع مرة أخرى لأسوأ ما كان عليه ويبدأ في التمرد ويقول ماهي بايظة بايظة ويقنط من رحمة الله ويتمادى في المعاصي . وبعضهم يصل إلى الإلحاد ولقد قابلت مئات منهم خلال عملي في مجال الصحة النفسية ومن فضل الله في جلستين ثلاثة مفتوحة للتحدث في صميم الدين يعود الشاب لرشده بمنتهى الحب والراحة النفسية لدينه وبكامل إرادته عن اقتناع تام .

الحالة الثالثة :

-  بعضهم يعمل عقله ويفكر بصورة إيجابية ويقول ، مستحيل يكون هذا هو الدين الصحيح ،، مستحيل يكون دا ربنا ،، فيبدأ في التفكير ويهتدي لعلماء فاهمين الدين صح فيصحح مفاهيمه وتنموا مداركه فيستمر ويلين قلبه ويؤمن قلبه وجوارحه وتجده إسلاما وقرآنا يمشي على الأرض ينشر الرحمة والعدل والحب بين الناس ..يفهم الدين فهما مريحا ، يطمئن به قلبه ، يقوم بالعبادات بمنتهى الراحة والاستمتاع ، يحمد الله من كل قلبه على كل الراحة والسعادة والاستمتاع الذي يعيش فيه بكل كيانه ، يكون صادقا واضحا لايتظاهر بما هو عكس الباطن .. وهؤلاء نسبتهم قليلة جدا بين الناس لذا إن لم تكن على هذه الحالة من الراحة والسعادة والاستمتاع بحياتك فحتما أنت تطبق الدين بشكل خاطئ أو تعلمت الدين من شخص غير فقيه بالدين.

اعلموا أن كل الأئمة السابقين وكل البشر  وكل الأنبياء مروا بهذه التجارب على سلم الوعي .. في البداية كانت معلوماته بسيطة ، ويوما بعد يوما وسنة بعد سنة تنمو مداركه وينمو ويزداد وعيه ،، فمعظم الأئمة السابقين تجده في بداية كتبه يكفر الناس بسهولة ويقول من قال هذا فقد كفر ويكون غليظ القلب صارما حادا بحجة نصرة الدين والحفاظ عليه .. بل إن معظمهم وصل مثلا إلى أن يقول من قال إن الجني لا يدخل الإنسي فقد كفر ، ومن فعل كذا كذا فقد كفر ... كان أسهل شيء عليه أن يكفر الناس ،،  ثم في أواخر كتبه تجده يحذر أتباعه من التكفير ويعتذر عن منهجه السابق حين كان وعيه ضعيفا بالدين .. كل الناس بلا استثناء مروا بهذه التجربة ومعظم الأئمة كذلك مروا بهذه التجربة ومن قرأ كتبهم جميعها من أولها إلى آخرها يعلم ذلك ..فمن البديهي أن الإنسان لا يولد عالما بكل العلم . بل كل فترة يتعلم علما جديدا ينسف معتقداته السابقة !!!

المصيبة أن حديثي الدخول في الدين ومعظمهم الآن من المشاهير في الدعوة لم يدرسوا الدين منذ بداياتهم ، معظمهم انضم للدين بعد تخرجه من الجامعة لم يدرس في الأزهر لا يفهم فقه الاختلاف !! يقرأ كتابا لأحد الأئمة (كتاب في مرحلة وعي بسيطة) فيستند عليه ويكفر الناس ويبدأ في الخوض فيهم بالسب والشتم والشماتة دون أن يعلم أن هذا ليس من أخلاق الدين نهائيا ،، بل ليست من صفات النبي الكريم بتاتا ، وهو لا يدري أن هذا العالم نفسه تبرأ من هذا الكتاب قبل أن يموت وحذر أتباعه منه في إصدار آخر قبل وفاته  وبعد أن ازداد وعيه بالدين ..

لهذا حذر النبي من ذلك وأمرنا أن نرجع دائما للقرآن والسنة كي لا نقع في هذه المصائب ..

خذوها قاعدة : من يكفر الناس بسهولة ، ويقيم البرامج والحوارات ليرد على هذا ويتهكم على هذا ويمعن في بيان كيف أن هذا الشخص جاهل أو غير متدين أو أو ،، وإذا مات يبدأ بالشماتة فيهم والقول بأنهم في الجحيم أو الهلاك المبين ، تابعوا سيرتهم منذ بداياتهم ستفاجأون بأنهم لم يكونوا على الدين من قبل ،، منهم من كان مغنيا وتاب ، ومنهم من كان دراسته دبلوم وبدأ يدخل الدين ، ومنهم من كان دراسته عادية ثم دخل للدين حديثا وربى ذقنه وأصبح العالم الجليل ومنهم من كان في قمة الضياع ثم دخل الدين ،، معظمهم بدأوا دراسة الدين في سن الثلاثين أو الأربعين .. بدأوا بقراءة الكتب دون وعي ، واستشهدوا بها ..

هم أنفسهم سيفيقون بعد فترة ، عندما يزداد وعيهم ، أنا أرى بعضهم بدأ الآن يزداد وعيه ويتراجع عن ما كان قاله في الماضي ، هذا شيء طبيعي .. هو سلم للوعي نصعد عليه جميعا حتى وفاتنا

لن تجدوا عالما منذ نعومة أظفاره يدرس الدين يكفر أحدا إلا قليلا .. لذلك تجد العلماء الأجلاء لا يدخلون في هذه المشاكل لشدة وعيهم واستيعابهم للدين ، لن تجد الشعراوي كذلك مثلا لن تجد الغزالي ، هؤلاء علماء بمعنى الكلمة قرأوا آلاف الكتب ووعوا الدين بصورة صحيحة ، درسوا الفقه والقرآن والتفسير والحديث منذ كانوا في أولى ابتدائي ..

المشكلة أن الناس لأنهم يجهلون بأمور الدين : إذا وجدوا في الفضائيات شيخ جميل المنظر ، يبدو على مظهره قبل أن يتكلم أنه عالم (بالشكل) صدقوه فيما يقول دون أن يعملوا عقولهم ويسألوا من هذا ومن أين جاء بهذه المعلومات التي معظمها (الرد على فلان) (تكفير فلان) (بيان أن فلان الفلاني جاهل جهول) (التحذير من فلان) .. كلهم حديثي الدخول في الدين لا يظهر معظمهم إلا عند المشاكل وكل كلامه يصب في اتهام شخص .. شخص آخر !! . جل ما يفعلوه دون وعي منهم هو نشر الفتنة والاختلاف في المجتمع ونشر التكفير والأحكام والغلظة وما كان النبي الكريم يفعل ذلك ..

هذا الصنف من الدعاة صدر للناس أن الدين صعب كله ضغوط وتعاليم ومن لم يلتزم بها دخل النار .. تجدهم يكفرون الناس ويستشهدون بآيات في غير محلها ، والناس تتبعهم وتقول واو .. بينما لو جاء عالم آخر واستشهد بآية تثبت عندم جواز التكفير تجد الناس تقول له أنت جاهل وتستخدم الآيات في غير سياقها .. بينما الأول هو من يفعل ذلك .أصبحنا في الشدة نتبع من لا يستطيع فهم الآيات القرآنية بمرادها الصحيح ، بل يفهمها فهما مغلوطا قاسيا غليظا مليئا بالأحكام والكره والغل والحقد ..  بينما في اللين واليسر نجد النفور.

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2016 مدونـة يقظة وعــي