مفهوم المادة الفيزيائي عبر الزمن
كان الإغريق يعتقدون أن المادة مصنوعة من دقائق غير قابلة للانقسام، أطلقوا عليها اسم «الذرات – Atoms»، وكانوا يعتقدون أيضاً أن العدد الهائل من المواد يتكون من اتحاد عدد صغير من وحدات بناءٍ أولية معينة. كان تخمينهم صحيحاً بالرغم من أن مفهوم الذرة غير قابلة للانقسام كان خاطئاً.
في بداية ثلاثينيات القرن الـعشرين، أجرى علماء فيزياء بارزون مثل «طومسون، إرنست رذرفورد، نيلز بور، جيمس تشادويك»؛ عدة تجارب ظهر نتيجتها نموذج للذرات يُشبه نموذج النظام الشمسي، لكن الذرة تتكون من «بروتونات، نيوترونات» تحتشد حولها الإلكترونات في مداراتٍ ثابتة.
وفي نهاية الثلاثينيات؛ اكتشف علماء فيزياء أثناء دراستهم للأشعة الكونية؛ أن هناك جُسيمة أخرى أطلقوا عليها اسم «ميون – Muon».
وفي منتصف الخمسينات من القرن الـعشرين، اكتشف كلٌّ من «فريدريك راينز، وكلايد كوان» أدلة تجريبية حاسمة على وجود جُسيمة أساسية رابعة أطلقا عليها اسم «نيوترينو»؛ والتي تتميز بأنها جُسيم شبحي من الصعب الكشف عنها، حيث من النادر أن تتداخل مع المواد الأخرى.
في العام 1968، وجد علماء تجريبيون في مركز المُعجّل الخطّي في ستانفورد؛ أن البروتونات والنيوترونات ليست جسيمات أولية، وإنما تتكون من 3 جسيمات أصغر منها تُسمى «كواركات – Quarks».
مدخل إلى نظرية الأوتار الفائقة
في البداية، النظريتان اللتان يعتمد عليهما الفيزيائيين في فهم سير الكون بما يحمل بشكلٍ عام، هما «النظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين، وميكانيكا الكم».
الأولى تُقدم شرحاً نظرياً لفهم عالم الأحجام أو الأبعاد الكبرى في الكون مثل «الكواكب، النجوم، المجرات، عناقيد المجرات أيضاً، وحتى المدى وراء الكون نفسه، والقوى التي تُحرّكها».
أمّا النظرية الثانية؛ فتقدم فهماً أكثر لعالم مُتناهي الصغر في المادة؛ وهو عالم الذرّات والجسيمات والعالم دون الذرّي أيضاً.
فكلتا النظريتان تقدمان شرحاً مُنفصلاً لعالمين مُختلفين تماماً، لذا ليس بمقدور أيّ من الفيزيائيين أن يدمجهما سوياً، أو تطبيقهما معاً. فلكل نظرية طريقة سير وقوانين تختلف تماماً عن الأخرى، والأكثر من ذلك أن تطبيق إحداهما ينفي الأخرى بحيث تكون واحدة فقط هي الصحيحة.
هذا التوتر والتناقض في وصف المادة المُكوّنة جميعها من ذرّات، كان لا بد له أن ينتهي، وأن تُوجد نظرية فيزيائية صحيحة مُوحدة تستطيع دمج هاتين النظريتين دون أخطاء.
فكانت « نظرية الأوتار الفائقة – Superstring Theory » بالرغم من أنها لا تزال نظرية قيد الدراسة، هي النظرية التي أتت لتضع حلّاً لذلك التناقض، بل تعتمد صحة قبولها، وتطبيقها على تطبيق كلّ من ميكانيكا الكم والنسبية معاً.
وإذا ما نظرنا لطريقة سير الكون؛ فالأشياء سواءً أكانت في عالم الأحجام الكبيرة، أو في العالم مُتناهي الصغر؛ فهناك قوى رئيسية تحكمها ومسؤولة عنها؛ تُعرَف بالقوى الطبيعية الأربع؛ وهُي «القوة النووية الشديدة، القوة الضعيفة، الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية».
واكتشف علماء الفيزياء سمتين تُميزان هذه القوى الأربع؛ وهي:
* السمة الأولى: إذا ما نظرنا للقوى على المستوى الميكروسكوبي، فهذه القوى لها جُسيمات مُترافقة معها يمكن اعتبارها الحزمة الصغرى لها.
القوة الكهرومغناطيسية على سبيل المثال؛ حزمتها الصغرى عبارة عن فوتونات متمثلة في أشعة الليزر.
والقوى القوية والضعيفة؛ مكوناتها الصغرى عبارة عن جسيمات يطلق عليها اسم «غليونات – Gluons، وبوزونات قياسية ضعيفة – Weak Gauge Boson».
* السمة الثانية: هي أن تلك القوى تُشبه الكتلة في تحديد كيف تؤثر الجاذبية في الجسيمات. وأيضاً تشبه الشحنات الكهربائية في تحديد كيف تؤثر القوى المغناطيسية فيها.
نظرية الأوتار الفائقة… فكرة عامة والتعريف
فكرتها الأساسية ترتكز على أننا لو فحصنا أي جسيمات بدقة تزيد أضعافاً مُضاعفة عن فحوصاتنا المعهودة، فإننا سنرى أن هذه الجسيمات ليست مُجرد نقطة، بل أصغر من ذلك بكثير ومُكوّنة من أُنشوطة أُحادية البُـعد.
وتتكون كل جُسيمة من فتيلٍ يتذبذب ويهتز ويتراقص كحلقةٍ من المطاط نحيفة جداً. لذا أُطلق على هذه الأنشوطة اسم «الوتر- String».
كيف تُنتج الأشياء من أوتارٍ مهتزة؟
وفقاً للنظرية؛ تظهر أن الخواص التي تظهرها الجسيمات ما هي إلا انعكاس للطرق المختلفة التي يمكن أن يتذبذب بها الوتر.
ولتبسيط الفكرة؛ فلنأخذ على سبيل المثال أوتار آلة الكمان الموسيقية، أو البيانو والتي لها ترددات محددة تتذبذب عندها فقط. فعندما تهتز هذه الترددات تصل إلى آذاننا كأنساق نسمعها في هيئة نوتات موسيقية إيقاعية، كذلك هو حال الأنشوطات الأُحادية في نظرية الوتر.
فكل نسق من الأوتار المتذبذبة؛ تظهر في شكل جُسيمة تتحد كتلتها وقوة شحنتها بواسطة نسق اهتزازات الوتر. فالإلكترون وتر يتذبذب بطريقة واحدة، والكوارك وتر يتذبذب بطريقة أخرى، وهكذا كافة الجسيمات.
وبالرغم من أن النظرية لا تزال بعيدة عن الحقائق التجريبية؛ إلا أنها تُظهر سمة أو حقيقة فيزيائية لخواص الجسيمات وهي؛ الأنساق الرنينية للتذبذب للأنشوطات الأحادية للوتر. وأيضاً قوى الطبيعة تترافق مع أنساق محددة لاهتزازات وترية؛ بالتالي فإن المادة والقوى التي تحكمها تتوحد تحت عنوان: الاهتزازات الميكروسكوبية (النوتة التي يمكن أن تعزفها الأوتار).
النظريات في نظرية الأوتار الفائقة
– نظرية الأوتار البوزونية
هي أول نظرية أوتار عُرفت، وتتضمن أنساقاً اهتزازية جميعها بوزونات. وهناك 5 نظريات أخرى تتضمنها نظرية الأوتار كالتالي:
– نظرية الأوتار من النوع I
هي نظرية تتضمن أوتاراً مفتوحة وأخرى مغلقة.
– نظرية الأوتار من النوع IIA
هي نظرية تتضمن الأوتار المغلقة والتي لها أنساق اهتزاز تناظر يمين – ويسار.
– نظرية الأوتار من النوع IIB
تتضمن النظرية الأوتار المغلقة التي لها أنساق اهتزاز لعدم التناظر يمين – يسار.
– نظرية الأوتار (هيتيروتيك – O)
هي نظرية تتضمن أوتاراً مغلقة حركتها الاهتزازية اليسرى الاهتزازات الموجودة في الأوتار البوزونية.
– نظرية الأوتار (هيتيروتيك – E)
تتضمن أوتاراً مغلقة حركتها الاهتزازية اليمنى تشبه اهتزاز الأوتار II، أما الحركة الاهتزازية اليسرى فهي تشبه اهتزاز الأوتار البوزونية.
– النظرية – M
هي نظرية توحد النظريات الخمس السابقة في إطار واحد شامل، وتشتمل على 11 بُعداً (زمكانياً – Space-time Dimensions).
الأبعاد في نظرية الأوتار
الأبعاد في الكون الذي نعرفه؛ 3 أبعاد رئيسية وهي (الطول، العرض، الارتفاع)، بالإضافة إلى البُعد الرابع (الزمن).
أما نظرية الأوتار؛ تنص على أن الكون مُكوّن من «11 بُعداً»، وهو شيءٌ لا يُمكن تخيله. وتنحصر هذه الأبعاد في الأبعاد الثلاثة الرئيسية، والبُعد الرابع (الزمن)؛ وزِدْ على ذلك 7 أبعاد كونية أخرى افتراضية مُثبتة رياضياً، لتتمكن النظرية من تكوين هندسة مُوحدة للكون بأكمله.
ولتقريب الصورة بشكلٍ أفضل حول هذه الأبعاد..
تخيل لو أنك تعيش في مبنى مُكون من 10 طوابق، وتسكن في الطابق الـ 5، في هذه الحالة أنت تعيش فوق 5 طوابق، وأسفل 5 طوابق أيضاً.
إذا فكرت للحظة بالقفز من مكانك في الطابق الخامس باتجاه الأرض؛ ستجد نفسك تنظر لعوالم – طوابق – أخرى مختلفة كلياً عن ذلك الطابق الذي تسكنه.
هذه هي فكرة الأبعاد الـ 11 أو العوالم المختلفة التي تنص عليها نظرية الأوتار.
إن كل موقع في كوننا؛ نستطيع وصفه وتحديده عن طريق ثلاثة مجموعات من البيانات التي تُنسب إلى الأبعاد الفضائية الثلاثة.
وبمعنى آخر على سبيل المثال؛ إذا أردت تحديد عنوانٍ ما في أي مدينة؛ كل ما عليك فعله هو أن تذكر اسم الشارع، أي الموقع في البُعد (يمين أم يسار)، وتحديد الشارع المُتقاطع معه، أي الموقع في البُعد (أمام أم خلف) ورقم الطابق.
ومن منظورٍ أكثر حداثة؛ شجعتنا أبحاث آينشتاين على أن نُفكر في الزمن كبُعدٍ آخر (المستقبل – الحاضر – الماضي) والذي يؤدي إلى 4 أبعاد نعرفها (ثلاثة منهم مكانية والرابع زمني).
وفي عام 1919؛ قام رياضي بولندي يُدعى «تيودور كالوزا» من جامعة «كوننغسبرج» باقتراح غير مألوف، وهو أنه من الممكن أن تكون هناك أبعاد أخرى كثيرة في الواقع.
هل هي نظرية مُوحدة لكل شيء؟
كنظرية فيزيائية مُوحَّدة؛ تُحاول نظرية الأوتار شرح جميع القوى التي رُصدت في الطبيعة.
وبدأت القصة منذ عهد آينشتاين حين كانت قوتا «الكهرومغناطيسية والجاذبية» هما القوتان المعروفتان حينها. فلم يرتح آينشتاين لفكرة وجود قوتين فحسب، وبدأ برحلة البحث عن نظرية أسماها «نظرية المجال الموحد – Unified Field Theory»، والتي كان يأمل أن تعطيه إجابة واضحة بأن هاتين القوتين هما نتاج مبدأ عظيم واحد.
– ويعني بالمبدأ الواحد؛ أن كل شيء على أصغر المستويات الميكروسكوبية؛ تتكون من تجمع جدائل مُتذبذبة.
وبعد أكثر من نصف قرن من الزمن، أصبح مجتمع الفيزياء في العالم مقتنعاً بشكلٍ رسمي بأن نظرية الأوتار الفائقة قد تعطي إجابة لتساؤلات آينشتاين، وتزودنا بإطار مُفرد قادر على احتواء جميع القوى؛ والمادة معاً.
وفي الواقع؛ إحدى حلول معادلة الأوتار؛ هي قوة شبيهة بقوة الجاذبية، ويُعتبر نشوء أو ظهور هذه القوة؛ شهادة على قوة وجمال نظرية الأوتار.
ويُساهم هذا في جعل الفيزيائيين يتخلّون عن الفكرة الشائعة عن المكان والزمان، والاعتراف بعالمٍ ذو عشرة أبعاد بدلاً من تخمين إلى أين سيقودهم طريق البحث عن نظرية موحَّدة.
تمكنت نظرية الأوتار وبنجاح من أخذ قوة الجاذبية بعين الاعتبار، والتكهن بجُسيماتٍ فائقة التناظر. لكن ذلك الجمال كله ولوقتٍ طويل مضى، كان يقبع في هيئة هندسة رياضية جميلة دون وجود أدلة ملموسة، أو تنبؤات قابلة للرصد.
وفي أواخر السبعينات وفي بحث منفصل لكل من «جاكوب بكنشتاين Jacob Bekenstein، وستيفن هوكينغ Stephen Hawking»؛ وجدوا أن نسبة «الأنتروبية»؛ كانت كبيرة جداً في أنواع معينة من الثقوب السوداء.
* الأنتروبية: هي مقياس لعدم الترتيب، أو بمعنى آخر… الفوضى.
هذه النتائج كانت مُفاجئة جداً بسبب عدم استطاعة أحد فهم كيفية امتلاك جسم بسيط كالثقب الأسود لهذه الكمية الكبيرة من الفوضى في داخله، ولم تستطع حتى الحسابات إعطاء فكرة واضحة عن ذلك.
أما في العام 1996، قام فيزيائيين من معهد الفيزياء النظرية في جامعة سانتا باربارا، وجامعة هارفارد؛ وهما « آندرو سترومينغر – Andrew Strominger، وكومرون فافا – Cumrun Vafa» باستعمال نظرية الأوتار الفائقة من أجل بناء نوع معين من الثقوب السوداء أطلقوا عليها اسم «الثقوب السوداء المتطرفة»؛ بنفس الطريقة التي يُمكن أن يستعملها أحدهم – الفيزيائيين – من أجل بناء ذرة هيدروجين.
وُجد ذلك البناء عبر التلاعب بالمعادلات المُستنتجة من ميكانيك الكم، والتي تصف ارتباط الإلكترون بالبروتون.
* الثقوب السوداء المتطرفة: هي ثقوب مُشبعة بشحنةٍ ما – يمكن تخيلها كشحنة كهربائية – ولها كتلة قليلة للغاية تُناسب شحنتها.
وهنا استعانوا بأبحاث «هوكينغ و بكنشتاين» لبناء الثقب الأسود؛ وبالاعتماد على نظرية الأوتار. واستطاع كل من «سترمينغر وفافا» من تحديد القيمة الصحيحة «للأنتروبية» داخل الثقب الأسود التي وجدت في أبحاث زملائهما.
هذه النتائج صعقت مجتمع الفيزياء؛ إذ أنه وللمرة الأولى، أمكن الحصول على نتائج الفيزياء الكلاسيكية استناداً على نظرية الأوتار الفائقة.
وبالرغم من هذا؛ فإنّ الثقوب السوداء المتطرفة لديها القليل من القواسم المشتركة مع الثقوب السوداء العادية والتي نعتقد أنها تقع في مراكز المجرات.
وتوضح هذه الحسابات نوع العلاقة بين الأوتار والجاذبية، بالإضافة إلى أنها تُقدم رؤية على المُسببات الفيزيائية لحصولنا على هذا الجواب.
وحتى الآن؛ لا أحد يستطيع الجزم إذا ما كانت نظرية الأوتار الفائقة هي النظرية النهائية – نظرية كل شيء – أو هل هناك وجود لشيءٍ ما رياضي يصف الكون في معادلة واحدة، أم لا؟
لكنّها نظرية أنيقة بشكلٍ لا يُصدق، ولها إمكانيات وحساباتٍ قوية، وهي النظرية الأوْفَر حظاً في القرن الحالي إذا سمعنا أحدهم يتحدث عن نظرياتٍ تُفسِّر طبيعة العمل الداخلي للكون بشكلٍ عميق.
ختاماً.. هل نظرية الأوتار الفائقة؛ علم؟؟
في نظرية الأوتار الفائقة، لا وجود لأي جُسيمات أولية مثل الإلكترون، أو الكوارك؛ بل كل ما هو موجود هو عبارة عن «قطع من أوتارٍ مُهتزة، ويتوافق كل وضع اهتزاز مع جُسيم مُعين، ويحدد هذا الاهتزاز شحنة الجسيم وكتلته».
ولهذا السبب؛ ستكون النتائج هائلة في حال قُمنا باستبدال جميع الجُسيمات في المادة بأوتارٍ مهتزة ومتناهية الصغر، وأكثر من ذلك في فهمنا الحالي للنظرية، تلك الأوتار ليست مصنوعة من أي شيء: إنها المكون الأساسي للمادة.
في نظرية الأوتار الفائقة ذات الأبعاد العشر، أو الـ 11 بُعد، نحن نرصد 4 أبعاد فقط كبيرة وعادية؛ وهي ما نَعتبره المكان والزمان، أما الأبعاد الإضافية فهي التي تُحدد خصائص العالم الذي نعيش فيه، وأكثر من ذلك؛ إذا أُثبتت صحة النظرية فهذا يعني أن هناك أكواناً متعددة حول كوننا.
أما وضع الأوتار المُغلقة؛ فيتميز بجزيئين دوّارين من الجرافيتون.
الجرافيتون: هو الجسيم المسؤول عن الجاذبية كواحدة من التفاعلات الأساسية.
حتى نتمكن من وصف الكون وصفاً صحيحاً وفقاً للنظرية؛ نحن بحاجة إلى طريقةٍ ما للربط بين هاتين الحزمتين من الأبعاد، ولفعل ذلك؛ علينا تكوير الأبعاد الـ 6 الإضافية في حيزٍ صغير جداً من الفضاء.
اضافة تعليق